فيسبوكواتسابتويترابلاندرويدانستجراميوتيوب





إيمان شمس الدين - 25/11/2019م - 3:43 م | عدد القراء: 4539


عملية التقمص الوجداني هي ما ركز عليه عالم الاجتماع الأمريكي دانيال ليرنر، الذي اهتم بدراسة العلاقة بين وسائل الاعلام والتغيير الاجتماعي والثقافي، ودور الأخيرة في التنمية القومية لاجتياز المجتمع التقليدي.
 
سميت نظريته نظرية اجتياز المجتمع التقليدي، وكانت حصيلة الأبحاث التي أجراها مع بداية الخمسينيات على ٦ دول في الشرق الأوسط هي : تركيا، إيران، مصر، سوريا، لبنان، والأردن.
 
وعملية التقمص الوجداني تعني تصور الفرد لنفسه في مواقف وظروف الآخرين.
 
والآخرين هنا تعني النموذج والمثل الأعلى الذي يقدمه الاعلام ليصبح مرجعية معيارية سلوكية في لاوعي الجمهور. فمع تكرار ظهور هذا النموذج في كل الوسائل الاعلامية، يرتبط وجدان الناس به وتبدأ عملية التقمص التي تعني تماما تقليده كمرجعية ومحاولة نهج نفس السلوك ونمط التفكير والحياة، وبالتالي تبدأ ترددات هذا التقمص بالشياع في المجتمع وتدريجيا يتم تجاوز المجتمع التقليدي والانتقال به في عملية تحديث وتنمية وتطوير، يرسم معالمها أصحاب القدرة والمكنة والنفوذ. وبذلك تهدد الهويات الخاصة و تهدد منظومة القيم والمعايير الثابته تحت شعار تجاوز المجتمع التقليدي، مع عدم تعريف هؤلاء لمفهوم التقليدية، وحدودها ومعالمها، ومع إيمانهم بنسبية الحقيقة والقيم والمعايير، فنصبح كشعوب عرضة لاختراق لاوعينا وتشكيل جهازنا الإدراكي وفق ذلك.
 
لذلك نجد اليوم وسائل التواصل الاجتماعي نجحت في فرض نماذج ومشاهير استطاعت من خلالهم أن تهدم منظومة القيم الثابتة، و تحل محلها منظومة قيم سلبية مالت بالجيل الشاب إلى ثقافة الاستهلاك، والميل إلى الكسب السريع، و عدم الهدفية، واستهلاك حتى الوقت في سبيل الشهرة ومن ثم الغناء السريع.
 
ولكن في المقابل هل هناك مقاومة على مستوى الدولة أو المؤسسات لمواجهة هذه الموجة، وتقديم نماذج بديلة تكرس القيم الإيجابية وتعيد ثقة الشباب بأنفسهم و تعيد مبدأ الهدفية في الحياة؟
 
لا أجد جوابا حاسما في ذلك، مع أننا أغنياء بنماذج شابة مشرقة، يمكنها أن تكون نماذج بديلة لمشاهير  مواقع التواصل الاجتماعي، لو تتبنى الدولة والتيارات هذه الشخصيات وتقدمها كنماذج في المجتمع عن طريق الاعلام المكثف،  سيصبح من السهل مواجهة النماذج الغير سوية و تحويلها لمجرد حالات شاذة لا ظواهر منتشرة.
 
د.صالح الدلال: النموذج والمثال
 
النموذج هو نظرية موجهة نحو‪ ‬الفعل الذي نريد تحقيقه. و من هذا المنطلق يمكننا القول أن كل إنسان "ينمذج‪" ‬في حياته اليومية و في كل لحظة، فهو يجمع كل الكائنات التي تحيط به بصورة‪ ‬ذهنية، يشكل من خلالها نموذجه، ومن ثم يصبح بسلوكه النابع عن النموذج الفكري الخاص به، يصبح مثالا لذلك.
 
الشاب الدكتور صالح الدلال، هو شاب كويتي مثابر ، قدم نموذجا له عدة أبعاد:
 
- بعد فكري تمثل في منظومته الفكرية التي توضح الهدفية و آليات تحقيق الأهداف.
 
- بعد علمي تمثل في جده واجتهاده في التحصيل العلمي، ومثابرته في ذلك.
 
- بعد أخلاقي قيمي، تمثل في عدم الفصل بين العلم والأخلاق.
 
- بعد اجتماعي متمثل في الاندماج بمحيطه الطلابي و البذل والإيثار، الذي اتضح من شهادات الطلاب من مختلف المناطق في الاغتراب في بريطانيا، سواء المقربين أو غيرهم. 
 
هذا الشاب الذي لم يكتف بالانكفاء على دراسة طب الأسنان كدراسة عادية يريد من خلالها الشهرة والتكسب المادي ومساعدة الناس، بل تجلى طموحه ليختار تخصصا نادرا في جراحة الفك، تطلب منه دراسة الطب البشري، فأنهى دراسة الماجستير في طب الأسنان في بريطانيا، و بدأ العمل فيها، ومع العمل بمزاولة مهنته كطبيب أسنان، بدأ مشواره في الطب البشري، علما أنه في كل مراحله العلمية كان متفوقا، ومن يرى هذه الصورة الحياتية لهذا الشاب، سيعتقد أنه كان منكفئ اجتماعيًا، إلا أن الحقيقة كانت خلاف ذلك، حيث بلغ حجم انتشاره في مناطق مختلفة في بريطانيا حجما كبيرا ممتدا على رقع كثيرة فيها، فأصبح مرجعية قانونية و معينة للمغتربين الطلبة دون معرفة سابقة لهم به، فبمجرد لجوء أي طالب أو أهل طالب أو طالبة له، فهو لا يكتفي بتقديم النصح بآليات الدراسة ومستلزماتها، بل كان منزله فندقا لهم، يصل به الأمر لينام على الأرض لاستضافتهم، أو يترك منزله للعوائل منهم لأيام حيث يسكن الطلبة المتزوجين في منزله إلى أن يستلموا شققهم، ويستضيف الطلبة المغتربين في منزله ليس بالأيام بل بالشهور والسنوات، يطبخ لهم ويدعمهم ماديا في حال تأخرت معاشاتهم، وكان كالأخ الكبير للجميع، رغم شدة انشغاله يباشر الجميع بالسؤال. لم يفصل تقدمه العلمي عن التزامه الديني والقيمي والمبدئي ، ونحن حينما نقول ديني فنعني به التزام معتدل لا مُفَرِّط ولا مُفْرِط، رغم اغترابه للدراسة مما يقارب العشر سنوات في بريطانيا، لا يقول لمن يلجأ إليه لا ولا يتذمر من خدمة الناس. 
 
كان رجل الأخلاق بامتياز، عرف أهدافه وحدد طريقه في الوصول إليها، محبا للجميع ومتواصلا معهم، خفيف الظل، مثقفا، لم يلتفت كثيرا إلى متاع الدنيا رغم أنه يعيش في بريطانيا منذ عشر سنوات، لكنك تجده محافظا على هويته وخاصة الدينية ومعتدا بها، غير متعصب ومحب لجميع البشر، باختصار هو إنسان متأله، ونموذجا للمثقف الأكاديمي المشتبك.
 
رحل هذا الشاب النموذجي عن الدنيا فجأة دون سابق إنذار، ولكن يفترض في ظل صراع الهوية الذي نعيشه ويعيشه مجتمعنا، أن نجعل من رحيل هذه الشخصيات العظيمة، منارة تشع نورا بنموذجها الصالح، لتضيء به للأجيال وتؤسس لهم النماذج الصالحة عقلا وأخلاقا وعملا وسلوكا.
 
قد لا يكون دكتور صالح الدلال النموذج الوحيد، ولكنه النموذج الأكثر تميزا سواء في حياته أو بعد مماته، لأنه في حياته تميز بالجد والاجتهاد والأخلاق والعطاء بصمت، فلم يسع لشهرة أو لسمعة كما يفعل مشاهير السوشيل ميديا حتى الأطباء منهم، رغم ما يملكه الدكتور الراحل من مقومات للشهرة إلا أنه لم يلتفت إليها أو يطلبها،  والدليل أن لا أحد يعرف عن دكتور صالح في حياته، ما تم معرفته بعد مماته، فقد اشتهر شهرة بعد مماته لم يكن يسع إليها أبدا في حياته، ولم يعمل ما عمله في حياته إلا طلبا لرضا الله، الذي جعل منه نموذجا بعد رحيله وبات مشهورا للقاصي والداني، ولمن عرفه ولمن لم يعرفه.
 
لذلك عن نفسي أدعو كل مخلص وكل من يخشى على أطفاله وأبنائه من النمذجة الغربية، ومن الهجمة الشرسة على الهوية، أن يجعل من دكتور صالح الدلال رحمه الله نموذجا يرويه للأجيال، بل تكتب قصته بماء من ذهب. فإن طرح النماذج بتكثف الصورة السلوكية لها وشهادات الناس الحاضرة بحقها ، سيجعل المتلقي لها ساعيا لتقمصها سلوكا وفكرا وهدفا وقيما، وما أجمل أن نكرر في مجتمعنا نموذج الراحل الدكتور صالح الدلال رحمه الله.
 
رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته.


التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقعالتعليقات «0»


لاتوجد تعليقات!




اسمك:
بريدك الإلكتروني:
البلد:
التعليق:

عدد الأحرف المتبقية: